ها أنا وقد اتممت عامى الثامن والثلاثين إلا أن قلبى وعقلى قد توقفا عند سن الثامنة والعشرين رافضين التحرك أو المضى قدمًا فى الحياة.
أعود بذاكرتى لأول يوم لى فى كلية التجارة بجامعة القاهرة، وكيف كانت مشاعرى، وأنا أخطو خطواتى الأولى لمرحلة التعليم الجامعى التى نعتبرها علامة للنضج والتحرر من قيود المدرسة، وكأننا ننتقل من عالم إلى آخر، أتذكر كيف بدأت صداقات جديدة وتوطدت علاقتنا وكأننا تقابلنا منذ زمن، ومنهم "هبة" وهى فتاة متوسطة الجمال اعتادت أن تبدو بسيطة.
لا ترتدى ملابس غالية الثمن ولكنها أنيقة، ومتحدثة لبقة تجبرك على أن تنصت لها ولما لا وهى دائمًا ما تكون صاحبة رأى ووجهة نظر، عقلها يفوق سنها بكثير ولا تفعل إلا ما تكون مقتنعة به تمامًا.
توطدت علاقتى بهبة وأصبحت من أقرب الصديقات إلى قلبى ولكنى كنت دائم الاختلاف معها، فقد كانت بمثابة المرآة التى تكشف لى كل عيوبى بلا خجل ولا نفاق.
لكننى كنت أشعر أننى لا أستطيع الاستغناء عنها على الرغم من أننى لم أشعر تجاهها بالحب بالمعنى المتعارف عليه بين أى شاب وفتاة، أما هى فقد كانت عكسى تمامًا وكانت دائمة المحاولة فى إظهار حبها لى.
وبعد مرور عامين في الجامعة لم يعد بيننا خجل فى الحديث فكنت أقص عليها كل ما يدور حولى، ما يسعدنى وما يؤلمنى وكانت مستمعة جيدة لا تمل من حديثى فلم يبدو لى يومًا على وجهها علامات بالضيق حتى وأنا أقص عليها إعجابى ببعض الفتيات!!
عرفت سر شخصيتها المميزة عن من هن فى عمرها فقد فارقت أمها الحياة وتركتها وهى وأختها صغارًا وأعطاهما الله أبا فاضلا لم يتزوج ووهب حياته لهما ورباهما على الاعتماد على النفس، وحب القراءة والاطلاع، والصراحة مع الغير ومع النفس.
لم أكذب عليها وأصارحها بحب لم أشعر به ولكنى كنت شديد الارتباط بها ولا أستطيع الاستغناء عن وجودها ولكنى كنت دائمًا أقول لها " أنتى خنيقة" وكانت تضحك ولا تبالى بما أقوله واستمرت كما هى.. فكانت كثيرًا ما تتشاجر معى بسبب عدم حضورى المحاضرات وتلح على فى الحضور وكنت بمنتهى الضيق بعد فترة من إلحاحها أقول لها "وانتى مالك خليكى فى حالك"، كانت تتركنى فترة ثم تعود وتعيد ما قالته وتساعدنى على اجتياز الامتحانات، وكانت أحيانًا تعلق على ملابسى وتصمم أن هذا يليق وذاك لا يليق حتى أننى أصبحت أحاول الهروب منها أحيانًا حتى لا تعلق بالسلب أو الإيجاب.
فى يوم تشاجرت أنا وصديق مشترك بيننا، وأعترف الآن بأنى كنت مخطئًا، ولكن وقتها كنت لا أرى إلا نفسى، وعندما قالت لى فى وجهى الحق كانت ثورتى عارمة وغضبت منها وامتنعت عن الكلام معها فترة طويلة، ربما لأنى اعتقدت أنها لا بد أن تكون فى صفى فى جميع الأحوال، ولم أتكلم معها إلا يوم أن تعرض أبى لأزمة صحية كبيرة، وجاءت مع جميع الأصدقاء لزيارة أبى فى المستشفى.. وعينها تحمل نفس الحب ونفس الابتسامة التى كنت أحبها، ولكنى كنت أشعر أنها قيد يلف عنقى وأنا أعشق الحرية!! رأيت في عيناها نفس الحب ونفس الابتسامة التى كنت أحبها ولكنى كنت أشعر أنها بمثابة قيد ملفوف حول عنقى، فأنا كائن عاشق للحرية بطبيعتى، رافض لأى نوع من القيود حتى قيود من تحبّنى!!
لكن مع الوقت أصبحت هبة محور حياتى بالرغم من كثرة الأصدقاء من حولى وبالرغم من دخولى فى أكثر من علاقة انتهت بالفشل، وكنت كثيراً ما اسأل نفسى هل أنا أحبها؟
ربما كنت أشعر بحبها وأريدها ولكنى كلما كنت أتخيل حياتى معها لو أصبحت زوجتى كنت اشعر بأننى سأعيش معها حياة مليئة بالقيود، فأتراجع وأكبح جماح مشاعرى.. لقد كانت علاقتى بهبة من العلاقات الغريبة التى لا تستطيع أن ترسم لها ملامح محددة أو ربما أن مشاعرى تجاهها لم تكتمل بعد.
وانتهت سنوات الدراسة وأكملت خدمتى العسكرية وظلت علاقتى بهبة كما هى، إلى أن التحقت بوظيفة بإحدى الشركات وفى عملى قابلت "سارة" التى تختلف كل الاختلاف عن هبة ولم تمر إلا فترة قصيرة من عملنا سويًا حتى شعرت بأنها معجبة بى، بل وترانى دائمًا صائبًا فى كل ما أفعله، على عكس ما اعتدته من هبة، ولا تتناقش معى أبدًا فيما قد يغضبنى ولا تسألنى حتى لماذا تأخرت أو لماذا فعلت!!
لم يمض إلا تسعة أشهر على لقائنا حتى وجدت نفسى أفاتح أهلى برغبتى فى الارتباط بها، واتضح أن أبى كان يعرف عمها عن طريق العمل وأنها من عائلة محترمة، وأخبرت هبة ورأيت على وجهها نظرة تجمع بين الألم والحسرة وعزة النفس فى ذات الوقت، وسألنى الكثير من أصدقائى عن هبة ولكنى كنت أجيب دائمًا بأنها صديقة وأخت لكن الجواز والارتباط أمر مختلف.
تزوجت بعد ستة أشهر من خطبتى لسارة فالأمور كانت ميسرة وخاصة من ناحية أسرتها وابتعدت هبة منذ خطوبتى فأصبحنا كالغرباء ولكنى كنت أسأل عنها وأطمئن عليها من الأصدقاء، لم يمر شهران على زواجى لأعرف أنى ألقيت نفسى فى بحر من الكذب لا أعرف أوله من آخره.
أين سارة التى عرفتها؟ لقد أصبحت إنسانا آخر فلكل سؤال فى الدنيا جواب إلا معها لا بد أن تكون جاهز بإجابات كثيرة لكى تختار هى منها ما قد يعجبها، فضلا عن أنها لا تحب أصدقائى ولا تحب أن تخرج معنا ولا حتى أن أخرج بمفردى!! و بعد فترة قصيرة من الزواج أفصحت لى عن رغبتها فى أن تنجب وكان ردى عليها ألا نتعجل.. فلم أكن واثق من أن حياتنا يمكن أن تستمر على هذه الوتيرة، وإذا بى أرى رد فعل غاية فى العنف منها، فكيف لا أجبر على فكرة الإنجاب أو استجيب لرغبتها فى ذلك، وأمام هذا الغضب اضطررت للذهاب إلى الطبيب حتى تهدأ وعندما تبين لها أن لديها مشكلة فى الإنجاب أصيبت بجنون وكأنى أنا من صنعتها.
تحملت غضبها وانفعالها وتكلمت معها وحاولت أن أشرح لها أن هناك أمور بإرادة الله، لكنها تغيرت كثيرًا بعدها وأصبحت تتعامل معى كأنى سجين لا يحق لى الخروج إلا للعمل والعودة فى مواعيد محددة أو لزيارة الأهل فيما عدا ذلك لا بد أن أكون قد ارتكبت خطأ فى حقها أو خنتها، فتثور وتغضب وتترك المنزل ويقوم والدها بالاتصال بى ويقول نفس الاسطوانة التى سئمت منها "أنت الراجل ولازم تحتويها وأنت فاهم موضوع الخلفة مضايقها"!! هكذا كانوا يتعاملون معها فى منزل أسرتها حتى يتجنبوا طبعها السيئ.
أذهب واحتوى الموقف ولكن كانت النتيجة دائمًا أنها تزداد عنادًا وكبرًا وتتكلم وكأنها ملكتنى حتى أكاد أفقد شعورى.
واستمر الحال هكذا لأكثر من عام وظلت تتكرر نفس المواقف وبنفس الأسلوب إلى أن تجاوزت جميع الحدود فى آخر خلاف لنا وربما لأنها ظنت أن سكوتى ضعفًا فتمادت وألقت بكل ما أمامها فتهشم واستباحت لنفسها أن تسب الظروف التى جمعتها بى، ولم يمر عامان إلا وقد انفصلنا وأحمد الله أنى لم أنجب منها أطفالا كانوا سيدفعون الثمن.
وحمدت الله أيضاً أنى مرتاح الضمير معها فأنا لم أظلمها وأعطيتها كل حقوقها التى أضرتنى ماديًا بدرجة كبيرة ولكنى على الأقل فزت بنفسى وحياتى.
وإذا بقلبى يأخذنى إلى حيث تركته، إلى "هبة" التى لم تحاول أن تقترب منى بعد أن تزوجت ولم تحاول أن تتواجد فى أى تجمع من التجمعات القليلة التى كنت أستطيع أن أقابل فيها أصدقاءنا فى الجامعة، وكنت أعرف أنها لم ترتبط رسميًا ولكنى كنت أفكر ماذا عن قلبها هل أحبت غيرى؟ وبطريقة أخرى "هل مازال لى مكانًا فى قلبها؟" كعادتها من يوم أن عرفتها لا تنطق إلا ما تشعر به فهى لا تستطيع أن تتزوج إلا إذا أحبت وهى غاضبة منى ولكنها ما زالت تحمل قلبا ينبض ولم تنكر ولم تتعامل معاملة المنتصر، فضفضت إليها كأنى أحادث ذاتى حتى باتت تعلم كل خبايا نفسى، حتى المناطق الأظلم منها، أحاطت بنقاط قوتها وضعفها، حفظت ردود أفعالها عن ظهر قلب.. لعلها تستطيع قراءة حتى أفكارى.. هل يمكن بعد كل ذلك أن تقول إنها لا تعرفنى؟ بل تعرفنى وتفهمنى وتريدنى.
وتقدمت لهبة ورفضنى والدها فى البداية، وقال إنى لا أستحقها ولكن أمام إصرارها وافق وتم زواجنا، لم تضيع هبة وقتا فى النقاش فيما مضى وما كان فكانت توزع الزهور فى كل ركن من أركان منزلنا وكانت لا تتدخر كلمة حب تستطيع أن تعبر بها عن ما بداخلها.. تتشاجر ولكن بلطف، تملأ الدنيا بهجة وحب.. تطهو الطعام بيدها وترتب ملابسى بيدها وتنظر فى وجهى عندما أعود بابتسامة تملأ على الوجود كله وجعلتنى أنا من أقول بكامل رغبتى إنى أحببتها طوال حياتى دون أن أدرى.
ولكن للأسف لا شىء يدوم على حاله فى الحياة.. فبعد مرور أربعة أشهر فى سعادة على زواجنا فى يوم كنا فى طريقنا إلى المنزل وصممت على النزول لشراء "عدس" لبرودة الجو ولم أستطع أن أنزل أنا لعدم وجود مكان للسيارة، وهى عائدة إلى مسرعة صدمتها سيارة أمام عينى صدمة عنيفة ونزلت أجرى عليها ولكنها لم تمهلنى حتى وقتا أستطيع أن أساعدها وفارقت الحياة بهدوء كما عاشتها فى هدوء.
أعلم أنها إرادة الله ومشيئته ولكن الحزن يقتلنى لفراقها.. والندم يعذبنى لأَنِّى بعدت عنها لبعض الوقت.. فها أنا تتلهف روحى لثانية واحدة تعيشها معها بعد أن فارقتنى.
واليوم.. ربما أشعر بقدر من الرضا أنى كنت قد عدت إليها واستطعت أن ادخل إلى قلبها بعض الفرح والسعادة، وأنها حققت ما كانت تتمناه قبل أن تفارق الدنيا.
إلا أن حزنى على الوقت الذى ضيعته بعيدًا عنها سيظل يغلبنى.
لقد مر اليوم على فراقها عشر سنوات عشتها جسد بلا روح.. آكل وأشرب وأعمل ولكن قلبى صار عاجز على أن ينبض بالحب، بل صرت عاجزا عن الارتباط بغيرها فرغم مرور كل هذه السنوات إلا أن جرح القلب لم يلتئم فلا يزال نزيف قلبى عليها لم يتوقف.
قد تمضى الحياة ولا تتوقف عندما يفارقنا أغلى الناس ولكنى أقولها صادقة أنى ندمت على كل يوم مر فى حياتها وأنا بعيد عنها، فكم ندمت على شعورى الذى لم أفهمه تجاهها منذ اليوم الأول.
أنه درس العمر الذى تعلمته ولو شاءت الأقدار أن يكون لى ولد لعلمته "إن جاءك الحب يومًا فإياك أن تفرط فيه أو تتردد".
لمتابعة صفحة الكاتبة فريدة دياب على موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" "Farida Diab - فضفضة مع فريدة دياب".
شكرا لمتابعتكم خبر عن إذا جاءك الحب.. لا تتردد في بكبوزة ونحيطكم علما بان محتوي هذا الخبر تم كتابته بواسطة محرري مبتدا ولا يعبر اطلاقا عن وجهة نظر بكبوزة وانما تم نقله بالكامل كما هو، ويمكنك قراءة الخبر من المصدر الاساسي له من الرابط التالي مبتدا مع اطيب التحيات.
Tags
حواء و آدم