هل الحياة حقًا صعبة أم نحن من نجعلها هكذا؟
سؤال قد نتحير فى الإجابة عنه، فلا توجد قواعد واضحة تحكم إحساسنا بيسر أو صعوبة الحياة، أو بحلاوتها ومرارتها.. وما أراه أنا صعباً أو حتى فى حكم المستحيل، يمكن أن يراه شخص آخر أمراً طبيعياً أو ميسراً.. ولكننا جميعا نظل نحاول أن نواجه حياتنا وأقدارنا بيسرها وعسرها.
أنا ابنة وحيدة.. فتحت عينىَّ على بيت ملىء بكل ما يثير الاكتئاب، فالخلافات بين أبى وأمى لا تتوقف ولا تنتهى، بل تكاد تكون الحياة بينهما أمراً مستحيلاً، قناعتى الشخصية أنهما ارتضيا الاستمرار فى الحياة من أجلى أو رهبة من اتخاذ قرار قد يندمان عليه، لكن من المؤكد أن خلافاتهما قد أثرت فى حياتى، وأرهقتنى جسمانياً ونفسياً، فلم أعد حتى أشتهى الطعام، حتى أثَّر ذلك على وزنى بشكل كبير فصرت نحيفة جدًا بطريقة لافتة للأنظار..
الأمر الذى جعلنى أذهب إلى الأطباء ولكنهم جميعًا أكدوا عدم إصابتى بأى مرض، وأن كل ما أعانى منه هو مجرد حالة نفسية!
واستمرت الحياة بينهما هكذا إلى أن قررا الطلاق، وكنت وقتها قد بلغت العاشرة من عمرى، وبالفعل تم الانفصال فى هدوء، فأبى كان رجلاً متحضراً وأمى كانت سيدة معتدلة ولكن أمورهما معًا لم تستقم أو ربما كما يقال "مفيش كيميا".
وما إن تم الطلاق حتى ترك لنا أبى المنزل لأعيش فيه أنا وأمى، وكان يرسل لها كل ما قد تحتاجه دونما أى خلافات بينهما، وكنت أذهب لأزور أبى فى بيت جدتى وجدى كل أسبوع، ولم أسمعهم يوماً يذكرون أمى بسوء.
وهكذا ظل الحال لعامين، إلى أن تقدم لأمى عريس، وكان رجلاً توفيت زوجته ولديه ابنتان أصغر منى فى العمر، ولم تتردد أمى فى قبول الزواج منه، وشجعها على ذلك والدها الذى لم ير أى مانع من زواجها خصوصاً أنها ليست كبيرة السن ولا بدّ أن تكون لها حياتها.
بعد زواج أمى انتقلت للحياة مع أبى، وكنت أشعر بمرارة كبيرة لأنى انفصلت عنها ولم يمنعنى أبى من زيارتها، ولم يتكلم عنها أبدًا بطريقة تسئ لها أمامى.
ولم يمض عام على زواجها، إلا وتزوج أبى أيضًا من سيدة لديها ابن وابنة، فشعرت أنه لم يعد هناك مبرر لوجودى معه، وطلبت الانتقال للحياة مع أمى، خصوصاً أننى كنت أذهب دائماً لزيارتها ولم أجد يوماً ما يضيرنى من زوجها، بل على العكس بدأت علاقة من نوع جميل بينى وبين بناته، وكدنا نصبح كالأخوات.
والحقيقة أن الفضل فى ذلك يعود لأمى، فقد أحسنت معاملتهن، وكانت لهن الأم البديلة، وفى موعد حضورى لزيارتهن كانت تقول لهن "أختكم جاية النهاردة"، فأصبحتا تتلهفان على موعد حضورى.
ولم يكن زوج أمى أقل لهفة منهن، فكان يأتى ومعه حلوى للاحتفال بوجودى معهم، والأفضل من كل ذلك كانت نظرة الحب التى كان ينظر بها لى، وهو يعاملنى مثل ابنتيه ويسألنى عن حال دراستى ويقول لى: "عارف إن بابا موجود بس أنا كمان بابا".
وعلى الرغم من انفصال والدى فإن حالتى الصحية تحسّنت، ربما لتحسن حالتى النفسية فصرت أتقبل الطعام وازداد وزنى وبدت النضارة على وجهى، فلم أعد أبدو عابثة حزينة كما كنت.
وانتقلت للحياة مع أمى ولكنى كنت أذهب أسبوعيًا لزيارة أبى. ومع مضى الوقت نشأت علاقة متميزة مع زوجة أبى أيضاً، رغم أننى لم أتقبلها في البداية، فهى متدينة الطبع أكثر من المظهر، وسيدة منزل من الطراز المتميز، شديدة الاهتمام بأبى، وكان هو يتعامل مع أولادها وكأنه أبوهم.
أعترف أننى فى بادئ الأمر كنت أتعامل معها ومع أولادها بفتور، وأتعمد إخبار أبى أنى أريد أن أجلس معه وحده، لأتحدث، وكان أبى يستجيب لى وزوجته تصطنع أى شىء تفعله لتتركنى معه.. والعجيب أن أولادها هم من بادروا بالاقتراب منى، فكانوا يفرحون بقدومى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، وبالتدريج أصبحت أسمع نفس الكلمات التى أسمعها فى بيت أمى "أختكم جايه النهاردة"، فصرت أشعر أنى محاطة بالحب من كل جانب، وأنى صرت فرداً فى أسرة كبيرة، بعد أن عشت طفولتى ابنة وحيدة.
لم تنجب أمى من زوجها ولم ينجب أبى من زوجته، وكأنهما اكتفيا بما حباهما الله، وكنت أنا فى حيرة، فقد أحببت زوج أمى وأحببت الرقى الذى يتعامل به معى، فأحيانًا كانت أمى تضطر للحديث مع أبى فى أمور تخصّنى وكانت تتحدث معه أمام زوجها الذى كان يأخذ منها الموبايل فى المناسبات لتهنئته، وكانت أمى تشكر زوجة أبى كثيرًا على معاملتها الراقية لى.
وعلى الجانب الآخر أحببت زوجة أبى التى كانت تعاملنى برفق وحب، ربما لأنها حفظت معاملة أبى لأولادها وأحبّته، ولذلك لم أعد أشعر أن هناك مكاناً محدداً كى أقيم فيه، فقد أحببت كلا البيتين، بيت أمى وبيت أبى، وأصبح لى ثلاث أخوات وأخ، ربما ليسوا من دمى لكنهم أخوتى وبينى وبينهم ذكريات وعشرة وأيام ومواقف.
أذكر يوما ذهبت فيه أمى إلى المستشفى لعمل "الزائدة"، وكنت فى الثانوية العامة، وكانوا يتبارون فى خدمتى، ولا تستطيع أن تفرق بينهم، ولا تستطيع أن تعرف من ابن من أو ابنة من، فقد نشأت بينهم صداقة عميقة، وأصبحنا نحن الخمسة نضحك ونتكلم كأخوات حقيقيين جمعتنا ظروف الحياة.
قد نتشاجر، نتخاصم أو نتصالح، نشكو، نحزن أو نفرح أو نتألم، ولكن لم يقس أحدنا على الآخر يوماً، ولم ننس يوماً أننا أصبحنا كياناً واحداً لا بدّ أن نحافظ عليه.
فى الجامعة كانت أحيانًا تجمعنا المواعيد نفسها، وكنا نقدم بعضنا لأصدقائنا بأخى أو أختى، وظل اختلاف ألقابنا يدعو للفضول، لكن مع مرور الوقت أصبح الجميع يعلمون أنهم أخوتى.
تخرجت فى الجامعة وخُطبت لزميل لى جمعتنى به قصة حب، وأقمنا الحفلة فى منزل أبى وحضرت أمى وزوجها وأخوتى، وكانت عائلة خطيبى تنظر إلى عائلتى باحترام شديد.
نفس الموقف تكرر مع أخوتى، حيث كنت معهم فى كل مواقف حياتهم ولم أنس يوم أن قرر أخى السفر ليعمل فى إحدى البلاد العربية، وكيف بكيت لمجرد إحساسى أنى سأذهب لبيت أبى فلا أجده، فأخى كان يتمتع بقلب حنون مثل قلب أمه.
بعد عامين من خطبتى، تزوجت فى حفل حضرته أسرتى الكبيرة والتى أصبحت أكبر، لخطبة أخواتى وزواج أخى، كم كنت سعيدة ليلتها وهم حولى، يساعدونى فى كل شىء أفعله، وكم شعرت بقيمة ودفء العائلة، خصوصاً حينما تجمعها أوقات الفرح.
قصتى ليست خيال كاتب أو أحلاماً، فقصتى واقع حدث بالفعل، كتبتها كى أقول لكم إن الله قد شرع الطلاق وجعله أبغض الحلال، لكنه وُجد لأنه أحيانًا ما تصبح الحياة مستحيلة بين اثنين، ويكون الانفصال هو الأفضل لهما ولأولادهما كما حدث معى، لكن المشكلة فى كيفية حدوث الطلاق وما بعده.
لم يشترط أبى على أمى بعد الانفصال ألا تتزوج، ولم يهددها بمنعى عنها، لأنه يعلم أنه حقها الذى شرعه الله لها، وبعد زواجها وتأكده أنها تزوجت رجلاً فاضلاً لم يمنعنى من الذهاب إليها ولم يرهقنى بقصص حدثت وخلافات، إيماناً منه بأننى لست طرفًا فيما حدث بينهما حتى يعذبنى بها، فظل مسؤولاً عنى ماديًا ولم يتراجع أو يفعل ما يجعل أمى تتجه إلى المحاكم لتطلب حق ابنتها وحقها.
تعامل برجولة واستخدم حقه فى الحياة فتزوّج هو أيضًا الزوجة المناسبة ولم يتسرع فى الاختيار فقد عرض عليه من قبل فتيات تصغرنه بكثير ولا يمانعن فى الزواج منه، حتى لو كانت لديه ابنة، لكنه رفض، ولو كان قد وافق لما استطاع أحد لومه، لكنه كان يرغب فى أن يكون قريباً منى ولا يضحى بى من أجل رغباته، فتزوج ممن شعر أنها أم، ولديها قلب يملؤه حب الله، وستنظر لى بعين الرحمة.
تعامل مع أولادها بما يرضى ربه، فقابلته الإحسان بالإحسان وهكذا فعلت أمى مع أولاد زوجها. اليوم أنا أم لطفل وطفلة وأحب زوجى وأحافظ على بيتى وعلاقتى بأسرتى الكبيرة لا تنقطع وأولادى لهم جدان وجدتان، ولهم خالات وخال، ولهم أولاد خالاتهم وخالهم، يلعبون معهم ويتلهفون عليهم، فنحن أسرة والفضل كل الفضل لأبى وأمى اللذين تساميا عما بينهما من أجلى، وتعاملا برقى، وتفهما أن حياتهما صارت مستحيلة، فذلك لا يعنى أن يفقدونى حياتى أو يحطمانى نفسياً.
فسلام على كل من حاول أن يجعل الحياة أجمل وأسهل لكل من حوله، أولئك تكتب أسماؤهم بحروف من نور.
لمتابعة صفحة الكاتبة فريدة دياب على موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" "Farida Diab - فضفضة مع فريدة دياب".
شكرا لمتابعتكم خبر عن مفيش كيميا في بكبوزة ونحيطكم علما بان محتوي هذا الخبر تم كتابته بواسطة محرري مبتدا ولا يعبر اطلاقا عن وجهة نظر بكبوزة وانما تم نقله بالكامل كما هو، ويمكنك قراءة الخبر من المصدر الاساسي له من الرابط التالي مبتدا مع اطيب التحيات.
Tags
حواء و آدم